مكة وشرف المسؤولية - 14 ديسمبر 2015

صحيفة المدينة

مكة وشرف المسؤولية - 14 ديسمبر 2015

2021-10-11    448

(المسؤوليةُ على قدرِ العطيةِ)
هكذا يقولُ المكيونَ في أمثالِهم، وهم في الحقيقةِ ألصقُ الناسِ بهذا المعنى.
فالعطيةُ التي أُعطوها بجوار البيتِ الحرام تُحملهم مسؤولية كبيرةً، لايتحملها إلا المكيُّ.
إنها مسؤولية القربِ من هذا البيتِ العتيق والانتساب إليه والتشرفِ بخدمتِهِ.
يعرفُ المكيُّ أنَّه حيثُ ذهبَ من العالمِ فإنَّ صفتَه المكيةَ تمنحُهُ خصوصيةً وقدراً.
وقد كان المطوفونَ فيما مضى يُمضونَ نصف العامِ في جولاتهم على بلدانِ حجاجهم، فكان الواحدُ منهم إذا نزل ببلدٍ صار هو إمامَ الصلاة، والمفتيَ، والواعظَ، والخطيبَ، والراقيَ، والمأذونَ الشرعيَّ، والحكَمَ في المشكلاتِ، والمرجعَ عند النزاع .. كلُّ ذلك لأنّه من مكة، من جوارِ البيتِ العتيق.
وقد مرَّ بي موقفانِ شخصيانِ يحقّقانِ هذا المعنى:
كنتُ مرةً في لندن،وصليتُ في مسجد من مساجدها، وجلستُ بعد الصلاةِ جانباً، وفي المسجد مجموعةٌ قد اختلفتْ في مسألةٍ فقهيةٍ، وطال جدالهم، فالتفتْ أحدهم فرآني، وكأنه عرفني، فرفع صوته وقال: هنا مكة، هنا أم القرى، الجوابُ عند هذا الرجل!!
وحين زُرنا جامعة محمد الفاتح الوقفية بإسطنبول رأيتُ من حفاوتهم بالوفد المكيّ، ومن شوقهم الهائل لزيارة مكةَ والدراسة في أم القرى، ما أشعرني بعظم المسؤولية التي يحملها من ينتسبُ إلى هذه المدينة المقدسة.
هذه هي منزلة (المكيّ) عند المسلمين في أنحاء العالم، ولاعجبَ فإنها منزلةٌ تَشتق جلالتها من جلالةِ الكعبةِ، وشرفَها من شرفِ البيتِ الحرامِ.
حدثني والدي -رحمه الله- عن جده -رحمه الله- أنّه أدركَ حاجاً مغربياً ظل يسير في طريقه إلى مكة سبعةَ أشهر، ووصلها في عزّ الصيف، فلما بلغ حدود الحرم خلعَ حذاءَه وأبى أنْ يخطوَ به على أرضٍ وطئتْها قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظل يمشي حافياً على رمضاءِ مكةَ حتى غادرها وقد تشققتْ قدماه! لستُ هنا بصدد مناقشةِ شرعيةِ الأمرِ، ولكن بصدد بيانِ ما يملأ قلوبَ هؤلاء الزوار من إجلالٍ لمكةَ انعكسَ إجلالاً لأهلها وناسها.
لقد تشرف المكيون - مُذْ كانوا وكانتِ الكعبةُ- بخدمةِ بيت الله الحرامِ وزوارهِ استشعاراً لهذه المسؤولية، كان كلُّ فردٍ من قريش يجعلُ من ماله نصيباً للحجيج، وتنازعتْ بطونُ قريش شرف الخدمة، حتى تراضوا على أن يختصَّ كل فرعٍ منهم بشيءٍ من الخدمة.
وظلَّ المكيونَ على ذلك، حفاوةً بالحجيجِ، حتى جاءتْ هذه الدولةُ المباركةُ فكان ماقدمتْه وتقدمه لمكة وزوارها من ضيوف الرحمن أنموذجاً فريداً لم يسبق له مثيلٌ.
ذلك أمرٌ معلومٌ من التاريخِ، ومشاهدٌ في الحاضر.
ولكنَّ ما أردتُ التأكيد عليه هنا أن مسؤولية (المكيّ) ليستْ مقتصرةً على إكرام الحاجّ والقيامِ بشؤونه، بل هي أوسعُ مدىً، إنها مسؤولية يجبُ أن تنعكس على تدينه، وسلوكه، وأخلاقه، وألفاظِهِ، وأمانته، وتعامله.
يجبُ أن يدرك (المكيُّ) أنه في عرف المسلمين (ابنُ الصحابةِ)، وهذا النسبُ-وإنْ كان معنوياً- هو (مسؤولية ثقيلة) تُوجبُ عليه أن يكونَ على قدرها، وأنْ يصوغَ من ذاته شخصية جديرةً بالانتساب لمكةَ.
ألا ما أعظم شرف الانتسابِ لهذه العاصمة المقدسة، وما أثقلَ مسؤوليته!


مشاركة :